سايكولوجيا “التكويع” ↪️

ظاهرة التكويع: قراءة نفسية واجتماعية في التحول المفاجئ

في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة اجتماعية عُرفت بين الناس باسم “التكويع”، وهي تعبير يشير إلى التراجع المفاجئ أو تغيير الولاء من موقف إلى آخر. على سبيل المثال، رأيناها تظهر بوضوح في سوريا بعد سقوط النظام، حيث أعلن بعض الأشخاص ولاءهم للثورة بشكل مفاجئ بعد أن كانوا داعمين للنظام لفترة طويلة.

لكن إذا تعمقنا أكثر، نجد أن هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل هي جزء من الحالة البشرية ومرتبطة بسلوكيات قديمة تمتد عبر التاريخ الإنساني، من السياسة إلى الدين، وصولًا إلى الفنون وحتى الموضة.


ما هو التكويع؟

التكويع هو حالة نفسية واجتماعية، يمكن أن تحدث عندما يجد الإنسان نفسه مضطرًا للتأقلم مع الظروف الجديدة، سواء كان ذلك بدافع الخوف، المصالح الشخصية، أو الرغبة في الانتماء. قد يبدو هذا السلوك على السطح استجابة طبيعية للتغيرات، لكنه يعكس في العمق حالة من الضعف الداخلي وعدم القدرة على.


عوامل مشتركة تؤدي للتكويع:

1. الخوف والجبن:

الخوف هو العامل الأول والأبرز في دفع الإنسان للوقوف على الجانب الخاطئ. عندما تسيطر مشاعر الخوف، يصبح من الصعب رؤية الحق بوضوح أو حتى الاعتراف به، لأن الخوف يعمي البصيرة ويجعل الشخص يتبنى مواقف تتماشى مع النظام القائم أو القاعدة السائدة لحماية نفسه. هذا الخوف قد يدفع الإنسان للدفاع عن الباطل بوعي أو دون وعي، ويتحول إلى بوق يردد نفس الحجج التي كان يرفضها في الأصل، قبل أن يُجبر على التكيف مع الوضع الجديد حفاظًا على وجوده.

2. الانتماء للقطيع:

عندما يسيطر الخوف، يسعى الشخص دائمًا إلى الاختباء داخل الحشود ليصبح مجرد رقم بين القطيع. بهذه الطريقة، يشعر بالأمان ويحتمي بالجماعة. أما إذا حاول أن يعبر عن نفسه أو يقول الحق، فإنه يخاطر بالتعرض للانتقاد أو المواجهة، خاصة أن الأغلبية غالبًا ما تكون جبانة ومختبئة خلف الجماعة أو النظام السائد حفاظًا على سلامتها.

3. غياب الكيان الشخصي:

المكوع في الأصل شخص فاقد لشخصيته، مطموس الكيان، وهذا أمر طبيعي. فوجود كيان مستقل أو شخصية واضحة يشكل عائقًا أمام الانسياق الأعمى وراء الاتجاهات السائدة أو الخضوع للسلطة القائمة. لذلك، يتطلب منه الأمر طمس هويته بالكامل والتخلي عن ذاته ليتمكن من التماهي مع التيار العام أو إرضاء الجهة التي يراها الأقوى.

ولهذا السبب، تجد أن معظم الناس والمشاهير الذين يعتقد البعض أنهم يتمتعون بشخصية قوية وكاريزما هم في الواقع مجرد دمى بأقنعة، يستخدمونها لخداع الآخرين. وعند مواجهة المواقف الجدية، يتبين أنهم غير جديرين بالاعتماد عليهم إطلاقًا.

بالطبع، هناك عوامل أخرى عديدة مثل الطمع والمصالح الشخصية، لكنها في رأيي مع العوامل التي ذكرتها سابقًا يشترك بها جميع المكوّعين.


المشكلة لا تقتصر فقط على ظاهرة التكويع الحالية أو على من يمارسها الآن، بل هي أعمق من ذلك بكثير. تاريخيًا، ومنذ القدم، نجد أن العديد من أجدادنا كانوا مكوعين أيضًا. لقد انقلبوا على أنظمة قديمة واستبدلوها بجديدة ليس عن قناعة أو فهم حقيقي، بل بدافع الخوف فقط. وللأسف، نحن ورثنا الكثير من هذه الأفكار والتصرفات بشكل أعمى دون وعي أو تدقيق.

أمثلة عامة وتاريخية على التكويع:

من أبرز الأمثلة على هذه الظاهرة ما نراه في تاريخ الأديان. فقد كانت الغالبية في البداية تعارض الأنبياء أنفسهم عندما جاؤوا برسالة الحق. لكن بمجرد أن انتشرت الرسالة واكتسب الدين قوة وسيطرة على الأرض، تحول الكثيرون فجأة إلى مؤيدين وموالين. فالشخص الذي كان يستهزئ بالمسيح أصبح مسيحيًا، والذي كان يحمل السيف من قريش ليقتل الرسول أصبح من أبرز المدافعين عنه بعد انتشار الإسلام. هذا التحول لم يكن نابعًا عن إيمان حقيقي بقدر ما كان دافعًا سياسيًا أو حفاظًا على المصالح الشخصية.

حتى في أبسط تفاصيل حياتنا اليومية، نجد أمثلة واضحة على هذه الظاهرة. على سبيل المثال، مع كل الاحترام لمن يرتدي بناطيل ممزقة، في الظروف العادية، لو قدمت لشخص مثل هذا البنطال قبل أن يصبح موضة رائجة، لكان سيرفضه فورًا قائلاً: ‘ما هذا؟ هل تريد أن تحرجني؟’ ولكن بمجرد أن أصبحت هذه البناطيل جزءًا من الموضة الدارجة، تجد الكثير من الأشخاص يرتدونها بكل ثقة، بل وقد يخجلون من ارتداء البنطلون العادي الطبيعي. عمليًا، يمكن القول إنهم كوّعوا بصمت.

المشكلة ليست في ما ترتديه أو ما تقوله، بل في أن الشخص المكوع لا يعرف أين يقف أو ما هو موقعه الحقيقي. هو لا يكلف نفسه عناء التفكير أو التدقيق، بل يمنح ولاءه التام للترند السائد أو للسلطة التي يعرفها، ويمضي حياته دون وعي أو إدراك، مجرد تابع تتحكم به كلمة هنا أو سلطة هناك.


لماذا يجب علينا فهم هذه الظاهرة؟

التكويع ليس مجرد سلوك فردي؛ إنه انعكاس لظواهر نفسية واجتماعية أعمق. في كثير من الأحيان، يكون التكويع هو السبب في تأخير مسارات التغيير الإيجابي في المجتمعات. في سياق الثورة السورية، كان التكويع سببًا رئيسيًا في إطالة أمد المعاناة، حيث دفع الخوف الكثيرين لدعم النظام أو التزام الصمت حتى اللحظة الأخيرة.


الحل: شجاعة مواجهة الذات

إذا أردنا تجاوز ظاهرة التكويع، علينا أن نعمل على مواجهة مخاوفنا وتعزيز وعينا. الحياة قصيرة جدًا لنعيشها في ظل الخطأ أو التبعية العمياء. الوقوف مع الحق، حتى لو كان ذلك مكلفًا، هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير الحقيقي والعيش بكرامة, واللا سنعيش كالأموات بلا أي معنى لحياتنا.

على كل فرد أن يتحمل مسؤولية خياراته ويتجنب التراجع عن مبادئه لمجرد الخوف أو الانصياع للظروف. فبدون وعي وشجاعة، ستبقى المجتمعات أسيرة لنفس الأخطاء التاريخية المكررة.


ختامًا:
حتى يصل أغلب البشر إلى مستوى عالٍ من الوعي، ستستمر الحروب وستبقى ظاهرة التكويع قائمة، لأنها كانت وما زالت السبب في تخريب الأديان بعد رحيل أنبيائها، وإفساد الثورات بعد تضحيات أبنائها.

المطلوب هو أن يتغلب كل فرد على نفسه ويقف مع الحق عندما يستدعي الأمر، دون خوف أو تردد. فالثورة الحقيقية تبدأ من داخل الإنسان نفسه. نحن من نحدد شكل مجتمعنا: إما أن يكون منصفًا للجميع، أو مجرد جماعة تائهة تتبع الأوامر بلا وعي وتضيع حياتها بلا قيمة.

ابقَ يقظًا وقل الحق، لأن التهاون قد يجعلك تسلك طريق التكويع يومًا ما دون أن تدرك ذلك.

مقالات ذات صلة

التفاعل

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *